هذا موضوع خطبة الجمعة القادمة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه خطبة في موضوع: «التَّحذير من الآفات المهلكة في العقل والعِرض والمال» ليوم: 26 شوال 1446هـ، الموافق لــ: 25 أبريل 2025م
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده تعالى حمد الشَّاكرين، ونشكره شكر العارفين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة من أسلم وجهه لله، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، ومصطفاه من خلقه وخليله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدِّين كله، وكفى بالله شهيدا، صلى الله وسلم عليه بما هو أهله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، معاشر المؤمنين، فقد سبق في الخطبة الماضية الحديثُ عن ضرورة حفظِ الدِّين والنَّفس، واجتنابِ الآفات المهلكة لهما، واليوم نتحدَّثُ عن وجوب اجتناب الآفات المهلكة للعقل، والعِرض، والمال. وبيان ذلك كما يأتي:
أولاً: وجوب حفظ العقل، والعقلُ هو عِقال الإنسان ومناط التَّكليف، ووسيلة المعرفة ودليل الإيمان، وهو المخاطَب والمطالَب بالتَّأمل في ملكوت الله بقصد استشعار عظمة الله تعالى، وبكلِّ ما يجب الإيمان به من الغيبيات، والعقل: هو الفيصل بين الحقِّ والباطل عند ورود الشُّبهات، وبفقدانه تتعطل كلُّ هذه المصالح والمنافع في الإنسان، قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُۥٓ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَۖ﴾[1].
ودعا الحقُّ سبحانه إلى استعماله في الوصول إلى الحقِّ والصَّواب في كثير من الآيات كقوله سبحانه: ﴿لَقَدَ اَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَٰباٗ فِيهِ ذِكْرُكُمُۥٓۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَۖ﴾[2].
ولذا أوجب الله تعالى المحافظة على العقل، وتنميته بالتَّأمل في ملكوته، وسمَّى أصحابه بأولي النُّهى، وأولي الأبصار، وأولي الألباب، تنويهاً بهذا الجوهر الفريد في الإنسان المميزِ له عن سائر الخلائق والأكوان، وكلُّ هذه المعاني تدلُّ على تشريفه، وأنَّه من أعظم مزايا الإنسان التي بها يفهم نداء الشَّرع. قال الإمام الغزالي في قول الله تعالى: ﴿نُّورٌ عَلَيٰ نُورٖۖ ﴾[3].
أي نور العقل ونور الشَّرع [4].
وحرَّم الحقُّ سبحانه كلّ ما من شأنه أن يؤذي هذا الجوهر، أو يعطل مهمته، فأوجب اجتناب كل المسكرات التي تُذهب العقل، وبيَّن مخاطرها وما يترتب عنها من ترك الفرائض، وما تسببه من العداوة والبغضاء بين النَّاس، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا اَ۬لْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالَانصَابُ وَالَازْلَٰمُ رِجْسٞ مِّنْ عَمَلِ اِ۬لشَّيْطَٰنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ (92) إِنَّمَا يُرِيدُ اُ۬لشَّيْطَٰنُ أَنْ يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ اُ۬لْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِے اِ۬لْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اِ۬للَّهِ وَعَنِ اِ۬لصَّلَوٰةِۖ فَهَلَ اَنتُم مُّنتَهُونَۖ﴾[5].
ومن الآفات المهلكة للعقل كذلك؛ سائر أنواع المخدرات المبطلة لوظيفته، ومنها تضليله عن الحقِّ والصَّواب بالأفكار الهدَّامة، والتَّوجيهات المغرضة المنافية للدِّين، والمخالفة لما عليه إجماع الأمَّة من احترام المقدَّسات الشَّرعية، والثَّوابت الدِّينية، والقوانين المنظمة للحياة.
ومن الآفات المهلكات للعقل المستجدة في هذا العصر الإدمان على بعض المواقع الاجتماعية التي تُروِّج للقيل والقال، وتتكلم في أعراض النَّاس، ومنها كذلك تتبُّع ما لا ينبغي، ممَّا ليس من شأن المسلم أن ينشغل به، يقول النبي ﷺ: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه[6].
ثانياً: وجوب حفظ العِرض، وتجنيبه كل ما يَخدِشه من قول، أو فعل، أو إشارة، أو ظنون، والعِرضُ: هو ما يمدح أو يذم في الإنسان، ويغار عليه غيرة دونه النَّفس والمال، وقد شرع الحقُّ سبحانه وتعالى شرائع كثيرة لحفظ العرض، وحمايته من الآفات المهلكة، وأوجب حفظه والابتعاد عن كل ما يَخدِشه من قول، أو فعل، أو إشارة، أو ظنون، ومن ذلك:
فقد أحاط الدين الأعراض بتشريعات تحفظها، وتجعلها في نفوس النَّاس مُصانة محترمة، يظهر ذلك في أحكام الزَّواج، والطَّلاق، والنَّسب، والاستئذان، والدُّخول على بُيوت الغير، وما يقتضي ذلك من الآداب. وسورة النِّساء، والنُّور، والأحزاب، وسورة الطَّلاق كفيلة ببيان ذلك كله.
تحريم الزِّنا، واللِّواط، والقذف، والنَّظر السَّيئ إلى أعراض النَّاس، وسُوء الظَّن بهم واتهامهم في أعراضهم، كل هذه المهلكات وشبيهاتها يجب اجتنابها والبعد عنها فهي من الموبقات المهلكات، كما قال النَّبي ﷺ: «اجتنبوا السَّبع الموبقات»…
وذكر منها… «وقذفُ المحصنات المؤمنات الغافلات»[7].
نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من عذابه المهين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الغني عمَّا سواه، المفتقرِ إليه كل ما عداه، الفرد الصَّمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، والصَّلاة والسَّلام على النَّبي المصطفى والرَّسول المجتبى، سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحابته الأوفياء، وعلى كل من اتَّبع هداه.
عباد الله، فكما يجب تجنب الآفات المهلكة في العقل والعرض، يجب كذلك تجنب المهلكات في المال، باعتباره وسيلة تقوم عليها الحياة، وتتحقَّق بها المصالح الدُّنيوية والأخروية.
وحقيقة المال؛ أنَّه مالُ الله تعالى، استَخلف فيه عباده كما قال جل شأنه: ﴿ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِۖ فَالذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمُۥٓ أَجْرٞ كَبِيرٞۖ﴾[8].
وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُوتُواْ اُ۬لسُّفَهَآءَ امْوَٰلَكُمُ اُ۬لتِے جَعَلَ اَ۬للَّهُ لَكُمْ قِيَماٗۖ﴾[9].
فالمال قوام الحياة، أمر الله تعالى بحفظه وكسبه من حِلِّه ممَّا أباحه تعالى من الأسباب، وصرفه في حِلِّه ممَّا شرعه من الطَّاعات، ونهى عن الآفات المهلكة في المال، ومن أخطرها:
الكسب الحرام، وهو ما وصل إليه الإنسان بالباطل، ومن الباطل الغِش في الأعمال والمعاملات، كما قال الحق سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَاكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ﴾[10].
ومنها كذلك: الإسراف، وهو أخذ أكثر من اللازم في المباح، قال تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْۖ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ اُ۬لْمُسْرِفِينَۖ﴾[11].
والتَّبذير، وهو صرف المال في الحرام، قليله وكثيره سواء، قال تعالى: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراًۖ اِنَّ اَ۬لْمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخْوَٰنَ اَ۬لشَّيَٰطِينِۖ﴾[12].
عباد الله، لو امتثلنا هذه التَّوجيهات الرَّبانية، والإرشادات النَّبوية، لارتفعت عنَّا كلف كثيرة، سببها الإسراف والتَّبذير، والاستسلام للشَّهوات والملذَّات، والسَّبيل الوحيد لتجنب تلك الآفات؛ القناعةُ والرِّضى بما قسم الله لنا من فَيْضِ فضله وذُخْرِه، وصرفه وفق أمره، لنيل ثوابه وأجره. متأملين قول الحبيب المصطفى ﷺ: «لا تزول قدما عبد من بين يدي الله عزَّ وجلَّ حتى يُسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه»[13]
هذا؛ وصلّوا وسلِّموا على من صلى الله عليه في الملأ الأعلى تعظيما لشأنه، وصلَّت عليه ملائكته في أرضه وسمائه، ثم أمركم بشريف قوله وجميل ندائه فقال: ﴿اِنَّ اَ۬للَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَي اَ۬لنَّبِےٓءِۖ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماًۖ ﴾[14].
فاللهم صلِّ على سيِّدنا محمد وعلى آل سيِّدنا محمد، كما صلَّيت على سيِّدنا إبراهيم وعلى آل سيِّدنا إبراهيم، وبارك على سيِّدنا محمد وعلى آل سيِّدنا محمد كما باركت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيِّدنا إبراهيم في العالمين إنَّك حميد مجيد.
وارض اللهم عن ساداتنا الحنفاء الأربعة الخلفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصَّحابة أجمعين، خصوصاً الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
وانصر اللهم من ولَّيته أمر عبادك، مولانا أمير المومنين، صاحب الجلالة الملك محمداً السَّادس نصراً تعزُّ به دينك، وترفع به أولياءك، واحفظه اللهم بألطافك الخفية وسرك المكنون، في صحته وعافيته، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشدَّ أزره بشقيقه السَّعيد، صاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشَّريفة.
وارحم اللهم بواسع رحمتك الملكين الجليلين، مولانا محمداً الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيِّب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك.
اللهم احفظنا في ديننا وأنفسنا وعقولنا وأعراضنا وأموالنا وسائر ما مننت به علينا من فيض خزائنك، اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وارزقنا القناعة فيه، واهدنا لصرفه في طاعتك والتَّقرب به إليك.
ربَّنا اغفر لنا، ولآبائنا، ولأمهاتنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم.
اللهم ارحمنا وارحم والدينا وارحم موتانا وارحم من علمنا وارحم بفضلك جميع المسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنَّك قريب سميع مجيب الدَّعوات.
ربَّنا تقبل منَّا إنَّك أنت السَّميع العليم، وتب علينا إنَّك أنت التَّواب الرَّحيم.
ربنا آتنا في الدُّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النَّار، سبحان ربِّك ربِّ العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
سورة البقرة، الآية: 240.
[2] – سورة الأنبياء، الآية 10.
[3]– سورة النور، الآية: 35.
[4] معارج القدس في مدارج معرفة النفس، أبو حامد الغزالي، ص 59.
[5] – سورة المائدة، الآية 92 -93.
[6] – الموطأ كتاب حسن الخلق باب ما جاء في حسن الخلق، 2/902. رقم الحديث في منصة محمد السادس للحديث الشريف، 5800.
[7] – صحيح البخاري كتاب الوصايا باب قول الله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا، رقم: 2766. رقم الحديث في منصة محمد السادس للحديث الشريف، 115
[8] – سورة الحديد، الآية: 7.
[9] – سورة النساء، الآية: 5.
[10] – سورة النساء، الآية: 29.
[11] – سورة الأعراف، الآية 29.
[12] – سورة الإسراء، الآية: 26-27.
[13] – سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع باب في القيامة، رقم:2417، ومسند البزار وهذا لفظه، رقم: 1435.
[14] – سورة الأحزاب الآية: 56.